ثقافة و فنون

الناقد عبدالرحمن مُراد: المشهد الثقافي اليمني يعيش واقعا مُغتربا عن ذاته

السبت 19 مايو 2018 01:59 صباحاً عدن بوست -متابعات خاصة:

عبدالرحمن مُراد (1972) مِن الأسماء الشعرية الشابة التي ظهرت ضمن ما عُرف بجيل التسعينيات الأدبي في اليمن، وهو إلى ذلك باحثٌ وناقدٌ مختلف في رؤيته لإشكالات المُنتَج الإبداعي اليمني، وقبل ذلك في قراءته للمشكلة الثقافية لبلاده؛ وهو ما عالجه في عددٍ من كُتبه.  هنا حاولنا بسط رؤيته النقدية تجاه المشهد اليمني في اشتباكاته الثقافية والسياسية تحت وقع الحرب المستعرة هناك؛ فكان هذا الحوار:
  ■ عندما نتحدث عن النقاد في اليمن لا نقرأ أسماء راسخة ومؤثرة، على الرغم من التجربة الإبداعية المتجذرة في البلاد… بل يمكن القول إنه لا توجد حركة نقدية يمنية لها ملامح وتاريخ ومدرسة؟ □ يمكنني القول إن الحراك الثقافي والنقدي في اليمن ارتبط إلى حد بعيد بالهم الوطني، وقد كانت هناك منظومة مترابطة حول المشروع الثوري في السياسة وفي التجربة الوطنية وفي التطور الاجتماعي، وحين انفرط العقد مع إعادة تحقيق الوحدة اليمنية عام 1990، انعزلت الثقافة والنقد إلى حد بعيد. مع وجود التعدد السياسي، منذئذ بدأ النظر من السياسي إلى المثقفين على أنهم بؤر للتمرد والرفض والمعارضة؛ وانطلاقاً من ذلك فقد ساءت العلاقة بين المنظومة السياسية والمنظومة الثقافية في البلاد؛ فالقوى التقليدية التي كانت تخشى المثقف الذي يبشر بوعي إنساني يمهد للتغيير – والتغيير يهدد مصالحها طبعاً ـ أقصت المثقف الحقيقي بل حاربته في وجوده وحاصرته في دائرة الحاجة والعوز؛ فأصبح مشلولا وغير فاعل وغير قادر على العطاء، وتلك المقدمات أفضت إلى نتائج، منها الغياب ولذلك لم تكن هناك حركة نقدية ذات ملامح، فكل التجارب تتعثر وتضيع في تفاصيل الزمن والعوز.
  ■ وبما تفسر غياب النقاد المؤثرين وتأخر ميلاد حركة نقدية؟ □ المشكلة في اليمن هي أننا نعيش واقعاً يشبع حاجته من الغير؛ فالذات اليمنية تعيش عقدة تاريخية؛ وهي أننا لا نعترف لبعضنا بعضاً بالسبق وبالفضل، هذه قضية لها شواهد تاريخية، وقال بها المجدد الإمام الشوكاني 1250)هـ( حيث أدركها في زمنه، وهي ماتزال ملازمة لنا؛ لذلك فالمشهد النقدي والثقافي عموماً ربما يعيش واقعاً مغترباً عن ذاته؛ فقد غابت عنه الفلسفة وغاب النقد، كما أن المجتمع المتلقي غير موجود؛ وهو ما يمكن قراءته في حجم مبيعات المُنتَج الثقافي. المشكلة أن السياسة كانت تعمل على إبعاد الثقافة الحقيقية عن مراكز التأثير، فالقضية في اليمن شائكة؛ الفكر الجاد والثقافة الحقة عنصران بقيا ممنوعين من وسائل الإعلام على سبيل المثال، لأن الدولة التقليدية ماتزال تحكم رغم كل الثورات والزلازل التي شهدها المجتمع.
  ■ هل نفهم أن مشكلة النقد الأدبي في اليمن هي جزء من مشكلة اليمن خلال الفترة الماضية، والمتمثلة في تكريس ثقافة المصلحة وغياب الشفافية في التعامل مع كل أشكال الإنتاج؟ □ اليمن يعاني من منظومة مشاكل اجتماعية وسياسية وثقافية؛ وهذه المشاكل عبارة عن أسئلة وجودية تنتظر إجابات شافية، لكنها لم تصل إليها؛ فكل مشروع سياسي أو اجتماعي أو ثقافي لا يراعي خصائصها يفشل، وكل التجارب منذ ثورة سبتمبر/أيلول 1962 (ثورة تحرر شمال اليمن من الملكية الإمامية وتأسيس نظام جمهوري) تدل على ذلك، هناك تبدل كبير في التصورات والتوقعات والطموحات التي يمتلكها الإنسان اليمني، لكنها في حالة تيه لغياب الحامل الحقيقي لها وغياب الفلسفة وفكرة المشروع والنقد الحقيقي والواعي .
  ■ أفهم أن المسألة ليست في التخصص الأكاديمي النقدي؟ □ لا اعتقد ذلك؛ فالتخصص الأكاديمي لا يرتبط في اليمن بفكرة المشروع، بل بفكرة الضرورات البيولوجية للإنسان؛ ولذلك نرى أن جُل الأسماء التي تخصصت بسبب أو بآخر توقفت عند رسالة الدكتوراه ولم تتجاوزها، والكثير ذهب إلى خارج الوطن بحثاً عن مستوى اجتماعي أفضل؛ ولذلك ترتبط أبحاثهم بالضرورات اليومية، وليس بضرورات الفكرة والبحث والتأصيل، وشواهد ذلك كثيرة.
  ■ إلى أي مدى أثر ذلك الغياب على المنتج الإبداعي؟ □ بالضرورة ثمة تلازم بين جودة المنتج الإبداعي والنقد في كل العصور حتى في عصر النهضة، حين كانت هناك حركة نقد فاعلة ومؤثرة، كان هناك إبداع مواكب لها، ولم تزدهر الفنون والآداب في العصر العباسي إلا بمواكبة حركة نقدية قوية وفاعلة ومؤثرة. وما أراه اليوم أن ثورة التقنية الحديثة عملت على إزالة عوائق الدخول إلى النص، وبالتالي ساهمت إلى حد ما في جودة المنتج ومن تأثير الحركة النقدية في المسارات المختلفة؛ ولذلك فغياب النقد لم يعد هو المسؤول الأول عن الجودة أو الرداءة، إذ ثمة عوامل حضارية أخرى صدمتنا قبل الاستعداد لها؛ فتركت أثراً سلبياً بقدر كثافة الأثر الإيجابي لها.
  ■ كشفت الحرب الراهنة عن تفشي ثقافة العنف والكراهية والأقصاء، ما مسؤولية الأدب والفن خلال الفترة الماضية في التأسيس لثقافة الصدام؟ □ الحرب لم تكن إلا تعبيراً عن السلطة التقليدية العقيمة التي ظلت تحكم سيطرتها على مسارات الحياة هنا؛ وهذه السلطة كشفت مدى هشاشة التأثير الثقافي وعلى قوة حضور الماضي ونسبية التطور لأسباب منها: هامشية التأثير الثقافي كما سبقت الإشارة. الصدام كان مؤسساً له في البنية الثقافية، وتجلت خصائصه فيما تمارسه الفرق والجماعات والفصائل تجاه بعضها بعضاً، كما أفصح العامل التاريخي عن نفسه في مجريات الأحداث؛ وكل ذلك يدل على غياب حضور الفنون التي تكثف التجارب وتُعيد صياغة وحدة الوجود النفسية والقيمية للإنسان.
  ■ وهل يمكن القول إن ثقافة المبدع اليمني قبل الحرب كانت ثقافة تسامح وتعايش؟ أم أنه لم يكن أكثر من أداة من أدوات السياسي في معظمه؛ وبالتالي هو جزء من الحرب الراهنة؟  ـ للأسف المبدع اليمني أصبح أداة من أدوات السياسي، وهذه الصورة ربما كانت أكثر وضوحاً بعد عام 1990؛ فقد ظهرت في هذه الفترة أسماء كانت تعبيراً عن مشروع سياسي، سواء في اليمين أو في اليسار، وكان السباق محموماً على اتحاد الأدباء كمؤسسة ثقافيه يفترض بها الحياد، وتكاثرت الأسماء وغاب المشروع والمُنتَج الإبداعي الموازي للمشروع؛ فكل حزب أصبح يروج لمنتسبيه دون سواهم مهما كانت مستوياتهم، وكذلك صاروا يروجون لأحزابهم مهما كانت مواقفها؛ وهنا يتجلى خلل كبير يدفع الوطن ثمنه باهظاً.
  ■ كيف تقرأ موقف المبدعين في اليمن خلال الحرب؛ فكثير منهم انشطروا بين أطراف الحرب واختاروا مصالحهم ويعملون على تكريس ثقافة الصراع … أين الخلل في أن ينحاز المثقف والمبدع للحرب؟ □ هذا الخلل كانت مقدماته خاطئة، وبدأت في عام 1990؛ وهو ليس بأصيل. لو نظرنا إلى المثقف كصاحب مشروع وليس بتابع أو مُبِرِر لوجدنا أن هناك مثقفا يمنيا حقيقيا له مواقف ثابته وقوية لا تُبرر الحرب، ولم يكن بوقاً لها، ولم يفرط في استقلال موقفه وسيادة وطنه، المثقف المُبِرِر مثقف مُستخدَم تدفعه الضرورات والتبعية إلى التبرير وقلب الحقائق. رموز الثقافة اليمنية كعبدالله البردوني وعمر الجاوي ويوسف الشحاري ومحمد الربادي ومحمد سعيد جرادة وغيرهم… كانت أصواتهم تهز أركان النظام، سواء في الشمال أو في الجنوب قبل الوحدة اليمنية، بل كان بيان اتحاد الأدباء يراه الجمهور معياراً في تحديد الموقف؛ حيث أوقف الاتحاد في نهاية السبعينيات حرباً بين الشمال والجنوب، وكان في حرب صيف 1994، منحازاً للوطن وضد الحرب. ما حدث خلال هذه الحرب كان حالة استثنائية ربما كانت دوافعها وجودية أو تبعية سياسية؛ وهي واقعة تحت طائلة النقد والمراجعة والتأنيب، ولا أظنها ستعيد إنتاج نفسها في مستقبل اليمن.